نقاذ 300 مليون دولار صرفت وتجميع 53 مليون م3 من المياه, معادلة حالية واضحة تنتظر تأمين 200 مليون دولار. هذا باختصار واقع السدود الحالي في لبنان, حيث يتفرّج المسؤولون على أهم ثروة تذهب هدرًا ولا من يتحرّك. فمنظر المياه السطحية المتدفقة بغالبيتها نحو البحر في لبنان, يدلّ على عدم الجدية في التعاطي مع الموارد المائية واستغلالها.

لقد كانت الدولة اللبنانية سبّاقة منذ خمسينات القرن الماضي, حيث كلّفت شركة UTAH INTERNATIONAL الأميركية بدراسات على مختلف الأنهر اللبنانية, وتحديد مواقع لإقامة السدود عليها. وقد باشرت الدولة بإنشاء السدود وفق دراسة الشركة الأميركية, ومثالاً على ذلك بحيرة وسد القرعون.
وهنا برز دور المهندس إبراهيم عبد العال, "أبو السدود في لبنان", الذي تبنّى نتائج الدراسة. واعتبر أن الأمن المائي هو أساس التنمية الوطنية. هو من دفع باتجاه إنشاء سد وبحيرة القرعون (1959) كحجر زاوية في مشروع الليطاني, ولاحقًا عمل مع بعثة IRFED في عهد الرئيس فؤاد شهاب لربط مشاريع المياه بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية. عبد العال هو الذي ثبّت رؤية استراتيجية متكاملة لبناء السدود والبرك الجبلية, والتي ما زالت تشكّل حتى اليوم مرجعًا للخطط اللاحقة.
هذه الرؤية, عادت إلى الواجهة في عهد الرئيس إميل لحود مع إنشاء سد شبروح في أعالي كسروان, وسدّ بريصا في الضنية. واستكملت الدراسات على عدد من السدود المحددة مواقعها منذ الخمسينات من القرن الماضي.
خلال عهد الرئيس ميشال سليمان, حرّكت وزارة الطاقة ملف السدود واستكملت الدراسات, وكلفت الوزارة شركة SAFEGE الفرنسية للتأكيد على مواقع السدود المطروحة للتلزيم. وبعد الموافقة, طرحت الوزارة عددًا منها بواسطة دائرة المناقصات, وتم تلزيم كل من السدود التالية لشركات عالمية لها خبرتها الواسعة في تنفيذ أعمال مماثلة:
سد بقعاتا – سد بلعة – سد المسيلحة – سد جنة.
بعض من هذه السدود وصل إلى مراحله النهائية كسد المسيلحة وسد بقعاتا, ولكن الانهيار المالي سنة 2019, حال دون استكمال الأعمال.
وضعية السدود قيد الإنشاء في لبنان
أ- سد بقعاتا: صرف عليه 80 مليون دولار أميركي تقريبًا ويلزمه للاستكمال حوالى 15 مليون دولار أميركي, نُفّذ منه 85 %, سعته 7 ملايين متر مكعب.
ب- سد بلعة: صرف عليه حوالى 30 مليون دولار أميركي, ويلزمه للاستكمال حوالى 25 مليون دولار أميركي, نُفّذ منه 45 %, سعته حوالى مليون متر مكعب.
ج- سد المسيلحة: صرف عليه حوالى 61 مليون دولار أميركي, ويلزمه وفق تصريح الوزير وليد فيّاض بتاريخ 24/03/2025 بين 5 و10 ملايين دولار أميركي للاستكمال, نُفّذ منه 98 %, سعته 6 ملايين متر مكعب.
د- سد جنّة: صرف عليه حوالى 130 مليون دولار أميركي, ويلزمه 150 مليون دولار أميركي للاستكمال, نُفّذ منه 30 %, سعته 39 مليون متر مكعب.
وكل هذه المشاريع توقفت بسبب الانهيار المالي وعدم تأمين الاعتمادات اللازمة.
الإنذار في مواجهة البازار!
في السنوات العادية, يبلغ معدّل المتساقطات في لبنان حوالى 8 مليارات متر مكعب. يمكن الاستفادة من 500 مليون متر مكعب من الينابيع السطحية والآبار, ويذهب هدرًا نحو 4 مليارات متر مكعب. يجب إنشاء سدود وبحيرات جبلية لتخزين ما لا يقل عن مليار متر مكعب.
إنّ وضع المياه في السنة الحالية, ما هو إلا إنذار للجهات المعنية بإخراج موضوع السدود من البازار السياسي والاتجاه نحو فكّ أسر هذه المشاريع وتمويلها واستكمالها بكل دقة وشفافية, لأن بقاءها "لا معلقة ولا مطلقة" يفاقم الضرر على المنشآت. وهنا يكون هدر المال العام الحقيقي, وتفويت الفرصة على المواطنين للاستفادة من مياهها.
وفق ما قاله خبير فرنسي كان مكلفًا بمتابعة سد جنة (والذي أشرفت عليه شركة استشارية فرنسية متخصصة) لخصّ القاعدة الذهبية في موضوع السدود:
- "لا وجود لموقع مثالي لإنشاء السدود", لأن كل موقع يحمل صعوبات أو مخاطر (جيولوجية, هيدرولوجية, بيئية أو اجتماعية)
- الفارق بين مشروع ناجح وآخر متعثّر, ليس في وجود موقع مثالي, بل في المواكبة العلميّة والهندسية, أي إشراك خبراء دوليين ومحليين لديهم خبرة في:
• معالجة المشاكل الجيولوجية (كالكارست والتشققات).
• أنظمة الحقن والعزل لمعالجة التسربات.
• إدارة الرواسب والفيضانات.
• تقييم الأثر البيئي والاجتماعي.
• متابعة دقيقة لمرحلة التنفيذ والتشغيل.
وهذا ما يفسر أن كثيرًا من السدود حول العالم, بُنيت في مواقع "صعبة" تقنيًّا (تضاريس جبلية, مناطق زلزالية, صخور كلسية), لكنها نجحت بسبب التصميم الصحيح والمتابعة الدائمة.
هذا أيضًا ما قاله المهندس إبراهيم عبد العال منذ عقود: "المياه ثروة لبنان المدفونة فوق الأرض".
• الموقع المثالي غير موجود, لكن الإدارة المثالية ممكنة.
• وجود استشاريين ذوي خبرة ومتابعة يومية, هو ما يحوّل الصعوبات إلى حلول, وما يجعل الجدوى الاقتصادية والوظيفية للسد واقعية ومستدامة.
ويعتبر كثيرون من الخبراء أن هذا الأمر ينسحب تمامًا على سد المسيلحة:
• الموقع بحد ذاته ليس مثاليًا بسبب الطبيعة الكارستية في المنطقة, وهذا أمر طبيعي في معظم جبال لبنان.
• لكن خلال مرحلة الدراسات والتنفيذ, تمت مواكبة استشاريين دوليين ومحليين (من بينهم شركة SAFEGE الفرنسية) الذين وضعوا ملاحظات وحلولًا تقنية, وأُخذت بمعظمها.
• الدكتور فادي قمير, الذي رافق المشروع من بدايته حتى التلزيم وخلال التنفيذ, كان يشيد بجودة الأعمال وفق المعايير الدولية للسدود.
• التجارب العملية (امتلاء السد وتفريغه), أظهرت أن لا تسريب من جسم السد نفسه, بل إن الحاجة بقيت إلى استكمال بعض الأشغال الإضافية على أطراف البحيرة, وهو أمر كان متوقعًا ومذكورًا في ملاحظات الاستشاري.
• ما عرقل المشروع لم يكن عيبًا هندسيًا, بل الأزمة الاقتصادية التي منعت استكمال الأعمال المقررة, والتضخيم الإعلامي للمشكلة.