افتتاحية الرأي: زينب محسن

في زحمة الغارات ومشاهد الضحايا في الجنوب, ووسط غبار الانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة, جاء الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان إلى بيروت يحمل حقيبة دعم مشروطة, ودفتر شروط دولي عنوانه: الإصلاح أولاً, ثم الإعمار.
لقاءات الموفد الفرنسي مع الرؤساء الثلاثة رسمت صورة واضحة: موقف لبناني موحّد تحت سقف القرار 1701, والتشديد على وقف إطلاق النار, وانسحاب الاحتلال من الأراضي اللبنانية المتبقية. غير أن لغة البيانات الدبلوماسية لم تخفِ التوتر الكامن على الأرض, حيث وقعت اشتباكات مباشرة بين دوريات اليونيفيل وأهالي الجنوب, في مشهد بدا أنه يهدد ما تبقى من "الهدنة الهشة".
من قصر بعبدا إلى عين التينة فالسرايا, تنقّل لودريان مستفسرًا, ملوّحًا بالمؤتمر المرتقب في باريس, ومؤكّدًا أنّ فرنسا لا تزال ترى في لبنان أولوية, لكن بشروط: إصلاحات مالية وقانونية ومصرفية, تُمهّد الطريق أمام المجتمع الدولي لمدّ يد العون.
في المقابل, قدّم لبنان ورقته السياسية عبر مواقف متعددة: رئيس الجمهورية ذكّر من عمان بضرورة انسحاب إسرائيل من "التلال الخمس", ورئيس الحكومة رسم إطار "رؤية لبنان 30" التي ترتكز على احتكار الدولة للسلاح, واستعادة السيادة, وتفكيك المستودعات في الجنوب, بينما تحدّث رئيس البرلمان عن ورشة تشريعية لإقرار القوانين الإصلاحية, مشددًا على الشراكة مع فرنسا في حماية دور "اليونيفيل" وتجديد ولايتها.
لكنّ الميدان لم ينتظر لغة الدبلوماسية. فالاعتداء الإسرائيلي الذي أودى بحياة جندي في الجيش ووالده في شبعا, أضاء على هشاشة الوضع الأمني, فيما أعادت الغارة النقاش حول جدوى القرار 1701 الذي تخرقه إسرائيل يوميًا بلا رادع.
وعلى خطّ متوازٍ, لم يخلُ المشهد من توتّرات داخلية, حيث تعرّضت دوريات اليونيفيل للاعتداء في الجنوب, ما دفع الجيش إلى التدخّل, والقيام بمداهمات في دير قانون. هذه الأحداث دفعت رئيس الحكومة ووزارة الخارجية إلى إصدار بيانات إدانة, فيما أكدت "اليونيفيل" أن أي تقييد لتحركها يشكل انتهاكًا لولايتها, مذكّرةً بأنّ حريتها في الحركة جزء لا يتجزأ من تنفيذ القرار الدولي.
في موازاة هذا التوتر الأمني جنوبًا, سُجل حادث داخلي أثار موجة من الغضب الشعبي, تمثّل بتعرّض الشيخ ياسر عودة لاعتداء بالضرب المبرّح في منطقة حارة حريك, مقابل مبنى بلدية الحارة, وأمام مكتب مختار المنطقة محمد كمال شحرور.
ووفق شهود عيان, فإن مجموعة من الشبان أقدمت على الاعتداء الجسدي عليه في وضح النهار, وسط ذهول المارة واستغراب الأهالي من حصول الواقعة أمام مرأى المواطنين.
الحادثة فجّرت موجة استنكار على مواقع التواصل الاجتماعي, وسط مطالبات بفتح تحقيق فوري ومحاسبة المعتدين, لما للواقعة من رمزية تتصل بحرمة الشخصيات الدينية وسلامة الأمن الاجتماعي.
وبينما يجهد لبنان الرسمي لتثبيت شرعيته على طاولة المفاوضات, بدا واضحًا أن الإعمار لن يبدأ فعليًا من الطوب والحجر, بل من السياسة. فـ75 مليون دولار التي أعلنت فرنسا عن تقديمها لإعادة الإعمار, تبقى رمزية أمام تقديرات الأضرار التي قاربت 11 مليار دولار, والأهم أنّها مشروطة بمسار إصلاحي لا تراجع فيه.
على خطّ موازٍ, شدّد الرئيس عون خلال لقائه الملك الأردني عبد الله الثاني في عمّان على أهمية التعاون العربي لمواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية, واتفق الجانبان على تشكيل آلية تنسيق عليا, وعلى رفض مشاريع التهجير القسري للفلسطينيين.
الرسالة الفرنسية كانت واضحة: العالم مستعدّ لمساعدة لبنان, لكن لا شيك على بياض. في المقابل, الرسالة اللبنانية كانت دفاعية: لا إعمار دون أمن, ولا أمن دون التزام إسرائيل بوقف النار, ولا استقرار دون حماية السيادة.
وهكذا, رحل لودريان عن بيروت, فيما الجنوب لا يزال تحت النار, وملفات الداخل تتقاطع عند عقدة أساسية: هل يستعيد لبنان المبادرة, أم يبقى رهينة بين ركام الحرب وقيود الإصلاح؟