بعد ساعات على طرح الرئيس سعد الحريري نفسه كمرشّح جدّي لرئاسة الحكومة, شبّه البعض خطوته هذه أو مبادرته, على أنها قفزة في المجهول أو كمن قرّر السير داخل حقل ألغام متسلّحاً بمبادرة لم تكن قد حازت على إعجاب ورضى بعض القوى الأساسية في البلد عندما طرحت في السوق السياسي. وقد ارتكز هذا البعض في توصيفه هذا, على عقلية البعض التي لم تتغيّر والتي ما زالت على اقتناع بأن البلد لا يُمكن أن يستعيد عافيته, من دون إرشاداتها, أو إشرافها.
قد يعتقد البعض, أن الحريري عاد ليطرح نفسه مُنقذاً للوضع في لبنان من أجل إعادة تعويم نفسه بين اللاعبين السياسيين, وبأنه لن يتمكّن من إضافة أي شيء للبلد في ظل التركيبة الحاكمة, أو ان وعوده بالإصلاح سوف تصطدم بالكثير من العقبات, وعندها سيكون أمام خيارين: إمّا أن يستقيل من مهمته, أو أن يتحوّل إلى جزء من هذه التركيبة.
لكن ما لا يعرفه هؤلاء أو ربما غاب عن بالهم, أن الرئيس المُكلّف يُغامر برصيد كبير من إرثه السياسي الذي راكمه منذ العام 2005, وأيضاً بموقعه كزعيم سياسي وسُنّي بالدرجة الأولى من خلال طرحه نفسه لقيادة هذه المرحلة, من أجل تفويت الفرصة على هذا الطاقم الحاكم, للإستمرار بسياسة التفريط بلبنان وضمّه الى مشاريع لا تتناسب مع موقعه وانتمائه او مع طبيعة العيش المشترك التي ينفرد بها دوناً عن المنطقة كلها.
من هنا يُمكن القول أن الحريري عائد وفي جعبته أمر أساسي, هو وضع لبنان على السكّـة الصحيحة من خلال استغلال شبكة علاقاته مع الدول البعيدة قبل القريبة خصوصاً بعدما أظهرت التجارب كلّها, أنه الوحيد القادر على إخراج البلاد من الوضع المأزوم, وهذا ما لمسه معظم اللبنانيون منذ تكليفه تأليف الحكومة, نظراً للثقة التي يُمثّلها في المجالين, السياسي والاقتصادي وبالتالي لو لم يشعر هذه المرّة أنه الأجدر والأقوى على تولّي زمام المبادرة للحاق بركب الإنقاذ قبل الإنهيار التام, لما أقدم على هذه الخطوة, ولا عاد ليضع البيض مجدداً في سلّة هذه التركيبة السياسية.
مقرّبون من الحريري يؤكدون أنه لم يطرح نفسه منقذ, لأن إنقاذ البلد يحتاج الى تعاون من الجميع وبطبيعة الحال لن يتمكّن من إحداث أي خطوة في حال لم تلق طروحاته أو الأفكار التي يحملها, تجاوباً من الأخرين. ولقد اختبرنا أيضاً الحكومة السابقة وما جنته خلال الفترة الماضية, وكذلك اختبرنا الثورة التي تشرذمت هي الأخرى ولم تتمكّن من طرح أفكارها على النحو المناسب, ولا حتّى تمكّنت من جمع اللبنانيين تحت سقفها أو سقف مطالبها التي كانت موضع تساؤل حتّى بين الثوار أنفسهم. لكن في جميع الأحوال, علينا جميعاً المساهمة لإنجاح المبادرة الفرنسية كونها الخرطوشة الأخيرة في حربنا الاقتصادية التي نخوضها.
وبرأي المقربين من الحريري, أنه استطاع حتّى الساعة ان ينتزع من القوى السياسية الموجودة, اعترافاً أنه لا يُمكن بأي شكل من الأشكال المضي في السياسة نفسها لجهة التشكيلات الحكومية التي اعتُمدت خلال السنوات الماضية, وأن حكومة اختصاصيين هي الوحيدة القادرة على إنقاذ الوضع الاقتصادي والمالي. كما انه استطاع ان ينتزع موافقة القوى نفسها للسير بحكومة من غير السياسيين.
ويكشف هؤلاء أن الرئيس الحريري على تواصل دائم مع جميع الأفرقاء في لبنان, وأيضاً مع الإدارة الفرنسية وتحديداً مع الحلقة الضيّقة المحيطة بسيّد الإليزيه. والمُلاحظ أن ثمّة تقدم على كل الجبهات السياسية والتشاورية, وأن الحكومة أصبحت قاب قوسين أو أدنى من التأليف, على الرغم من أن المسار لا يخلو من محاولات اعتراض البعض سواء على شكل الحكومة وعدد الوزراء, أو لجهة آلية العمل التي ينوي الحريري السير بها مباشرة بعد الثقة.
لكن هذا كلّه بحسب المقربين, يبقى ضمن سقف محاولات هؤلاء لتحسين شروطهم, او لتحصيل مكاسب إضافية على الرغم من معرفتهم المُسبقة, أن حدود المناورة هذه المرّة مع الحريري ضيّقة جداً.